رغم قساوة الحرب المسعورة على قطاع غزة، وما بها من جرائم حرب ومجازر غير مسبوقة، إلا أن الغرب – لاسيما أمريكا – يرى أن الوقت ليس وقت إطلاق النار، مروجين لفكرة أن وقف إطلاق النار هو انتصار لحماس ومن ثم انتصار للإرهاب بحسب زعمهم.
ولا يرى أي من القادة الغربيين أن هناك حاجة ملحة لإنهاء الحرب أو على الأقل وقفها مؤقتا، زاعمين أن الحل المناسب في الوقت الراهن هو التوسع في إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وبمعدلات أكبر مما هي عليه الآن، شريطة ألا تصل تلك المساعدات إلى أيدي حماس حتى لا تستخدمها في حربها ضد الكيان الصهيوني، هكذا يشترطون.
ومن يرى الدعوات المتكررة بشأن المساعدات الإنسانية دون الحديث عن أي جانب آخر من جوانب الحرب والمعاناة التي تسببت فيها والخراب الذي خلفته؛ يدرك أن هذا العالم بلا إنسانية وأن المعايير لديه هي حسب الهوى وفقط.
نعم المساعدات الإنسانية مهمة بل وفي غاية الأهمية بالنسبة لأهل القطاع الذين لم يرحم أحد معاناتهم وتركهم ضحية للتجويع والقتل والخراب، لكن حتى تلك المساعدات لم تكن سوى فصلا آخرا من فصول الحرب الدائرة، ودليل آخر على خسة ودناءة هذا العالم مدعي الحرية والمبادئ.
العالم الغربي الذي غض الطرف عن جرائم الاحتلال بات مكشوف الوجه أمام بعض فئات شعبه وأمام المنظمات الحقوقية والإغاثية، وقد بدا ذلك واضحا في التصريحات الجلية الواضحة التي أدلى بها ممثلو تلك المنظمات واصفين ما يحدث بالإبادة الجماعية، ومحذرين من كارثة صحية وإنسانية كبرى وشيكة الحدوث في غزة.
تلك الانتقادات من قبل منظمات عالمية كشفت الوجه القبيح للعنصرية الغربية، وكذلك كشفت الوجه القبيح للممارسات الصهيونية، وقد بلغ الأمر حد الملاسنات بين منظمة الأمم المتحدة وبين الكيان الصهيوني وتبادل التصريحات، لدرجة أن الكيان الصهيوني هدد بعدم منح التأشيرات لمسوؤلي المنظمة بعد وصفهم لما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية وبجرائم حرب.
العجيب أن كل هذا الجدل والصراع الدائر حول المساعدات الإنسانية يحدث وتلك المساعدات تصطف فعلا على حدود القطاع المحاصر، لكنها تنتظر موافقة ورحمة تل أبيب التي لا تريد أن تسمح بالدخول للمزيد من تلك المساعدات، وتمني النفس بوقفها ومنعها نهائيا لولا الضغط العالمي عليها.
شعبية الدعم السياسي والعالمي للكيان الصهيوني بدأت في التآكل شيئا فشيئا بسبب المجازر اليومية التي تحدث لضعفاء غزة، ولولا بجاحة أمريكا وتحيزها الأعمى لتل أبيب لتوقفت الحرب منذ أيام عدة، علما بأن التآكل الذي يواجهه الاحتلال يتزايد يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، ودليل ذلك أن الكيان حذر رعاياه من السفر إلى دول عدة بسبب موجة العداء المتصاعد، بل وطالب رعاياه بعدم إظهار أية علامات تدل على أنهم من إسرائيل.
هذا التطور الرهيب جعل تل أبيب ترضخ ولو قليلا للضغوط الداعية إلى التوسع في إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، لكنها تخشى هذا التوسع لأنها تشكك في نوايا مصر، إذ أن الكيان المحتل يقول إنه لا يضمن نقاء المساعدات التي تدخلها القاهرة إلى القطاع، ملمحا إلى أن هذه المساعدات قد تكون وسيلة لإدخال السلاح أيضا، وهو ما يفسر اشتراط إسرائيل تفتيش تلك المساعدات قبل دخولها.
وقبل أيام، أعلن عدد من المسؤولين في تل أبيب أنهم لا يضمنون المساعدات التي عن طريق مصر، لذلك طرحوا فكرة إيجاد طريقة أخرى لإدخال المساعدات بعيدا عن مصر، ورأوا أن المناسب هو إنشاء ممر بحري لنقل المساعدات الإنسانية الحيوية إلى قطاع غزة من ميناء ليماسول الرئيسي في قبرص، وقد ناقش الجانبان الإسرائيلي والقبرصي هذه الفكرة بالفعل وحظيت بموافقة الطرفين، فضلا عن موافقة ودعم بعد دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك موافقة بعض الدول العربية على ذلك المقترح.
هذا التطور قد ينبئ بأن الأيام المقبلة قد تشهد مزيدا من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة سواء عن طريق مصر أو قبرص، وأن ذلك ليس إلا لحفظ ماء وجه تل أبيب أمام دول العالم، لكن يبقى السؤال إذا كان كل هذا الجدل حدث من أجل أطنان من المساعدات تقف فعليا على بعد خطوات من القطاع، فكيف سيقوى هذا العالم على ردع الكيان المحتل من أجل وقف إطلاق النار ؟ّ!.